إيمان عزمي
قبل فوات الأوان
هل حقا بدأ كل شيء منذ لحظة ميلاده أم بعد ذلك بكثير؟ هل أنا سيئة لتلك الدرجة؟! حقا لا أعرف. كل ما أعرفه أنني أحببته بشدة منذ اللحظة الأولى لرؤيته. و بالرغم من أنه لم يكن طفلي الأول إلا أن شعورا داخلني أنه طفلي الأول و الأخير. طفلي الذي لا استطيع أن اتركه و لو لثانيه واحدة كي ترعاه ( دادة ) الأولاد . كنت سعيدة كأنني انجبته بعد سنوات طويلة من العقم. و رغم أنني أنجبت بعده بنتين إلا أن مكانته في قلبي ظلت تزداد و لم تتناقص قط. حتى أنني لا اصدق من تقول أن ابنها الأول أو الأخير هو الأقرب لها. فقد كان كريم عكس ذلك. فرغم أنه أوسط أخوته حيث يكبره ولدين إلا أنه لم يعرف الوسطية في حياته. فهدوءه شديد، و أدبه جم، و حساسيته مفرطه و مشاعره جياشة. و عزلته عميقه و حبه لي يفوق الحدود. أغدقت و زوجي عليه بالكثير و الكثير من الحب و الحنان و الهدايا. حتى خوفنا عليه كان يفوق الوصف، فلم نخف في يوم على البنتين مثلما خفنا عليه. و الغريب أننا لم نكن نعرف سببا لخوفنا. كنا ننفذ له كل ما يطلب و نمنحه كل ما يتمني، و هو.. لم يكن يطلب الكثير بل قليلا ما كان يطلب. كان يهوي مجالسة الصمت عن مجالسة أقرانه لكنى لم أعبأ. فقد كان جلوسه معنا و ضحكاته التي لا تنتهي تنسيك شخصيته الحقيقية، بل لو رأيته و هو يتناقش مع أخويه و يقلداهما لقلت أنه شخص مرح لا يعرف الحزن الطريق إلى قلبه. حين دخل المدرسة تعذبت أكثر منه لفراقه اليومي الصباحي.. حتى أنني لم أكن أتناول افطارى صباحا إلا إذا تناوله معي، فإذا لم يفعل لانصرافه متأخرا للمدرسة لا أتذوق الطعام حتى يعود منها. أما هو فقد تعود مع الوقت على المدرسة لكنه لم يتخلى عن وحدته و عزلته بداخلها. بل تحول صمته إلى عشق يواجه به مشاكله الصغيرة التي كان يقصها على و هو جالسا على السرير كل ليلة و رأسه على حجري لأداعب شعره الأسود. في تلك الفترة اضطرتنا ظروف الحياة إلى العمل لأساعد والده في نفقاتنا المتزايدة باستمرار. كنت في البداية افتقده بشدة؛ فانجرف وراء رغباتي الملحة لرؤيته وسط النهار، فأغادر العمل و اذهب إليه لأطمئن عليه.. لكن سخرية الأولاد من تصرفي جعلتني أتراجع حتى لا اسبب له الإحراج. و مع الوقت تعودت على فراقه، أما هو فقد كان يزداد تعلقا بي. كنت كلما عدت من عملي أجده جالسا في غرفتي على السرير و على وجهه آثار البكاء. و حين تحدثت معه و طلبت منه التوقف عن البكاء ما كان منه إلا التوقف عن انتظاري بغرفتي و إبدالها بغرفته لكن آثار دموعه ظلت منحوتة على وجهه الهادئ معلنة فشلي في محوها. كنت اعرف أنه بلا أصدقاء لكنى لم أحاول تفسير الأمر أو تغييره. بل اكتفيت بأن جعلت من نفسي صديقة له. يشتكى لها همه. أما أخوته فقد ظلت مشاعره تجاههم غير مستقرة. فتارة اشعر بقربهم الشديد منه. يخرجون معا .. يضحكون و يتكلمون . و أحيانا أخرى اشعر كأن ألف سنة ضوئية تفصل بينهم. لا يجمعهم مكان و لا اهتمام. في بعض الأحيان كان يقلد أخويه الكبار، في الملبس و طريقة الكلام و الحركة، فيضيقا به و يهجرانه فيتقوقع داخل حجرته و رغم ذلك لم أكن أتدخل بينهم اعتقادا منى بأنهم سيرضوه في النهاية و يتركوه يقلدهم لكنهم ما أرضوه قط و هو ما تخلى عن تقليدهم حين يريد. كنت أرى و اسمع كل شيء لكنى لم احلل أو أفسر أو أتدخل في أي شيء. كان هدوءه لي طبيعيا، فهو أمر تتمناه كل أم كما كنت أعتقد. و عدم وجود أصدقاء له أمر طبيعي، فقد كنت مثله و أنا صغيرة بدون أصدقاء. و تعلقه الشديد بي كان طبيعيا لأقصى حد. ألم أحب ذلك التعلق؟ بل و كنت سببا فيه. *~.~*~.~* انتفضت من نومي في أحد الأيام على صوت صرخات متتالية لابنتي. جريت و زوجي نبحث عن مصدر الصوت، فقد كانت غرفتيهما خالية. وصلنا إلى غرفته. ألم أخبركم أنني أصررت أن تكون له غرفة مستقلة منذ صغره فرضخ زوجي لطلبي دون نقاش. كان أخويه يسدان عليّ الرؤية و هما يدفعان أختيهما خارجها. كدت أموت في تلك اللحظة و قد اعتقدت أنه فارق الحياة. احتضنت ابنتي دون أن أجرؤ على النظر داخل الغرفة لأراه، فكيف أراه و هو جثة؟! تحولت الدنيا في عيني خلال لحظات إلى غيمة بيضاء و لم أرى شيئا بعد ذلك سوى خيالات لم أميزها. حين استرددت وعيي كانت أسلاك كثيرة موصلة بيدي. حاولت أن انتزع صوتي من حنجرتي عليّ استطيع الكلام دون فائدة. ألتفت انظر حولي و أنا دائخة لأتعرف على المكان، فإذا بي أراه منزويا في أحد أركان الغرفة يبكي بحرقة دون صوت و هو يحاول إخفاء دموعه. كيف أراه و قد رحل؟! ماذا حدث؟! حاولت استيعاب الأمر لكن عقلي كان مرهقا، فأغمضت عيني و أنا اسمع صوت زوجي يهدأه: _ لا داعي للانفعال مرة أخرى، فهذا خطر على صحتك. لكن نحيبه ارتفع و اقترب في نفس الوقت فعدت و فتحت عيني لأجده يرتمي عليّ و يقول: _ أمي .. أمي. أنا السبب فيما حدث لكِ و الله ما أردت أن يحدث لي شيء. كنت أعرف أنك ِ لن تحتملي الصدمة؛ لذا أخفيت الأمر عنكم جميعا. أرجوكِ أمي لا تتركيني؛ فأنا احبك. لم استطع للمرة الثانية أن انطق، ففشلت في طمأنته لكن زوجي جذبه إلى صدره و اخذ يقبل رأسه: _ فلتهدأ حتى لا يتكرر الأمر مرة أخرى فيزداد حزنها. هنا جفت دموعه سريعا و قال و الحزن يعتصر صوته: _ لكنها لا تجاوبني. كدت اطلب منهم بلغة الإشارة إحضار ورقة و قلما لأطالبهم بتفسير ما حدث و ما قالاه لكن دخول الطبيب قطع عليّ المحاولة. حتى أخوته لم أراهم. لكن.. لم يكن هناك مجال للسؤال عنهم. تحدث الطيب لي فحاولت الرد و لكن فشلت كما فشلت سابقا، فطلب مغادرة كريم للغرفة و بالطبع خرج و لكن بعد إلحاح شديد من والده. تحدث الطبيب إليّ طالبا منى استخدام الإشارة، فما كان منى إلا أن سألته عما حدث لأبني، لكنه لم يجاوبني مدعيا أن همه الآن هو علاجي. لم اهتم بكلامه و أعطيته ظهري، فكيف اهتم بنفسي دون أن اعرف ما حدث لولدي؟! حاول إثنائي عن عزمي مرارا لكنه فشل و في النهاية استسلم مرغما و تركني مع زوجي و غادر كي يتح له فرصة الكلام. جلس زوجي بجانبي على السرير و امسك بيدي يداعبها كما اعتاد أن يفعل كلما احتار في الإفضاء لي بأمر ما، فتعلقت يدي بكفه التي ارتعشت و أنا احتويها بأناملي الصغيرة. فرفع كفي إلى فمه و اخذ يلثمها ثم قال بعد جهاد: _ لقد تشاجر كريم و سوسن فانفعل كريم و ...... ظللت أحثه بكفي التي لامست وجهه الحزين على توضيح الأمر دون الدخول في التفاصيل، فقال و هو يقاوم دموعه المحبوسة في مقلتيه: _ لقد أصيب كريم بالصرع منذ فترة و لم يخبرنا و حين تشاجر مع أخته بالأمس هاجمته نوبة صرع، فأعتقدت سوسن أنه يموت و أخذت تصرخ هي ثم أختها التي جاءت على الصوت.... و لم اسمع باقي جملته فقط ترددت جملته الأولى في أذني فآخذت انتفض. كريم، ابني أصيب بالصرع. متى و كيف و ماذا و لم ؟ و كل الأسئلة أردت أن اصرخ بها .. لكن دموعي كان لها النصيب الوحيد في التعبير عما اجتاحني من مشاعر. مسح زوجي دموعي و هو يقول: _ يجب ألا تنفعلي، فأنا غير مستعدا لفقدك. لكنني لم استطع تحمل الصدمة و صرخت .. صرخت صرخة مدوية أفزعتني أنا نفسي. خرج صراخي دون إرادتي. لم أكن أريد أن افعل ذلك. لكن الأمر حدث في ثواني. كنت مثل المجنونة. صفعت زوجي على وجهه و نعته بالكذاب. نطقت فكان سبي له هو أول ما نطقت به في الوقت الذي دخل الطبيب فيه و معه الممرضات إلى الحجرة. لم أكن أتخيل أن تكون كلمة كذاب هي أول كلمة تخرج من فمي بعد ما حدث و لكن.. الأسوأ هو ما حدث. _ طلقني .. طلقني. لا أعرف لما نطقت بتلك الكلمة يومها، فما بيني و بين زوجي الكثير و الكثير من الحب. لم تكن علاقتنا يوم ما فاترة و لم يكن بيننا مشاكل راسخة. كنا زوجين مثاليين بشدة. و لكن جاءت تلك اللحظة لتقسم بغير ذلك. ظللت أحمله مسئولية ما أصاب ولدنا و أنا أصرخ فيه. سباب كثير له. اتهامات لا تنتهي بكرهه لكريم. كيف نطقت بذلك الكلام؟! لا أعرف حقا! أما هو لو قلت أن ملامحه حملت الذهول كرد فعل لسلوكي أكون قد خففت من وصف وقع الصدمة عليه. فما أجتاح وجهه من تعابير لم يكن يسير. شحب وجهه لأقصى حد، و أحمرت عينيه حتى اختفى بياضهما. ازرقت شفتيه و انعقد حاجباه كأنهما سيظلان هكذا للأبد. و رغم ذلك لم أهدأ بل عدت وصفعته على وجهه و كل من في الغرفة يحاولوا تهدأتي. هنا تغيرت ملامحه ليتخذ وجهه لون الليل. لقد فقدت بشرته لونها الأبيض المميزة بها في لحظات و أنا اردد كلمتي كذاب و طلقني في هستيرية. و قبل أن يتأزم الموقف كان الطبيب الكبير يدفع زوجي خارج الغرفة تاركا للطبيب الشاب مهمة حقني بمهدأ. *~.~*~.~* عرفت بعد ذلك أنني دخلت في غيبوبة استمرت أسبوعين، و الغريب أنه رغم ما فعلته بزوجي فإنه لم يفارقني كما اخبروني. بل ظل يحدثني كأني اسمعه. يحتضن كفي الصغير و يضمه إلى صدره كلما أراد النوم.. أما عن الغيبوبة فلا أتذكر خلال تلك الفترة سوى صراخي الأخير قبل أن أغيب عن الوعي ثم رؤيتي لزوجي ما أن خرجت من الغيبوبة و هو راقدا بجانبي علي سرير المستشفى يحتويني بذراعيه كأننا نائمين في غرفتنا بمنزلنا. و سقط ما حدث في غيبوبتي من ذاكرتي للأبد. هدأت الأحوال و استقرت الأمور بعد استردادي للوعي. و عدت لزوجي .. عدت في هدوء دون أن نناقش ما حدث لكن شيء بداخلنا انكسر. ما هذا الشيء؟ الله وحده اعلم. أما كريم، فأفهمنا الطبيب كيف نتعامل معه؟ و رغم ذلك لم أسعى إلى إخراجه من عزلته بل تركته يغوص فيها بل و غصت أنا أيضا معه. كان خوفه يزداد مع الوقت من إصابته بإحدى تلك النوبات أمام الأغراب، أما أنا فكنت أسعد بالهدوء الذي يغلف غرفته، فلا مكان بها لصرخات أخواته و صوتهم المزعج و كلامهم الغير مفهوم في كثير من الأحيان لي. أما هو فصوته الخجول يريحني إذا تحدث لي. و قلة طلباته تسعدني على عكس إخوته الذين لا تنتهي طلباتهم أبدا. أما زوجي.. آه.. آه لو كنت أعلم. كل يوم كان يزداد انفصالا عني أو لأكون منصفة له. كل يوم كنت اطرده من حياتي دون أن اشعر. كان يكفيني وجود أبني كريم معي. فكلما احتجت لشيء طلبته منه، فلا يتردد أو يناقشني فيه بل ينفذه و على ملامحه ابتسامته التي اعشقها. حتى كلمات الحنان و الحب كنت أكتفي بسماعها منه. لم أعد اشعر بحاجتي لزوجي خاصة بعد أن أصبح لي راتبي الشهري الذي اقبضه من عملي. هجرت غرفتنا و هجرت مشاعري له. هجرت حبه لي. حتى أولادي هجرتهم. هجرت المجتمع بأكمله. فقط كريم هو الذي لم اهجره و لولا عملي لكنت اعتزلت الحياة لأمكث في غرفته ليل نهار. كنت أنام الليل و هو نائما في حضني. أدعوا له في سري بالشفاء. كنت استيقظ كل ليلة على يده التي تهزني برفق كي أفيق و هو يقول: _ أمي. إنه كابوس. لا داعي لهذا الخوف. فأنتفض مستيقظة لأجدني غارقة في عرقي، فاستعيذ بالله من ذلك الكابوس. كل ليلة نفس الكابوس. يتكرر و يتكرر كأنه لن يتوقف أبدا عن زيارتي_ ابني كريم يموت. هل حقا هو الذي كان يموت؟! في الواقع لم يكن وحده يموت. بل كان حبي يموت. كان عشقي يموت. كان روحي يموت. كان زواجي يموت. كل شيء كان يموت .. يموت في هدوء و أنا تائهة في غيبوبتي. كانت أسرتي كلها تموت و أنا مصابة بالعمى، فلم أنقذها من الموت. حتى حين صرخ في زوجي في أحد الأيام قبل رحيله بفترة قصيرة طالبا مني أحياء البيت كما أمته لم أفهمه بل لم أرد أن أفهم. كنت مستسلمة لخوفي على ابني، منساقة وراء حبي المرضي له، فلم ينفع معي الكلام. و الآن و أنا أتذكر زوجي تعتصرني الآلام .. أين هو الآن مني؟! و أين أنا الآن منه؟! تمت بحمد الله
التسميات: edit post
0 تعليقات