تحركت يد الطبيب أخيرا لتمسح عن وجهه العرق الذى كان غارقا فيه و بالسرعة التى فقد بها ذاكرته استعاد بها كل شئ .. ذاكرته و هدوءه و نشاطه و توازنه، ففتح الحقيبة التى نسيها فى غمرة الاحاسيس الغريبة التى أجتاحته منذ قليل، و شرع فى الكشف عليها ، و لكن سرعان ما خذلته يده حين اجتاحتها رعشة لم يستطع أن يسيطر عليها. _ شامل. هل أنت بخير؟ _ لا تقلقي عليّ. فقط أرجو أن تعدي لي ينسون. و ما أن همت لتغادر الغرفة حتى صرخ: _ لا. _ شامل ماذا بك؟! _ أسف إن كنت أفزعتك قمر.فقط أفتحي الشباك. أنني بخير. و قد كان يكذب فى تلك اللحظة لانه لم يعدل عن طلبه لا لشئ إلا لأنه خائفا। أهو خائف من شيطانه فى تلك اللحظة؟! فلماذا الخوف منه ؟! و ماذا يمكن أن يفعل به؟! لم يكن يعرف. أم خائف من ضعفه؟! و لكنه ما عهد نفسه ضعيفا. أهو نوع أخر من الخوف لم يختبره بعد؟! ربما ، أم خائف منها هى ؟! خائف أن يؤدى استردادها للوعى إلى تأثير سئ عليه يفقده ما تبقى له من عقل بعد تلك الهزة التى سببتها رؤيته لها ॥ الله وحده يعلم، فربما تكون كل تلك الانواع ممزوجة معا داخل نفسه، فدفعته إلى ذلك التصرف الذي بدا له جنون.

.~.~.~.

فتحت الفتاة الشباك و أخذت تراقب الطبيب بعناية و قلق شديد .. فلم يكن الطبيب سوى شامل أخيها الشقيق و هما أصغر ابناء تاجر الانتيكات المعروف سالم البرانى من الزوجة الصغرى، فقد كان والدهما متزوجا من ابنة عمه التى لم تنجب له قط و متزوجا من ابنة خالته و له منها سبعة ابناء ذكور و ابنه أما والدتهما فقد كانت الزوجة الاخيرة التى تصغره بعشرون عام و تحظى بمكانة خاصة لديه فهى الوحيدة التى تزوجها برغبته لا برغبة والديه كما فى الزيجتين السابقتين. عاشت اسرة تاجر الانتيكات سالم البرانى سنوات طويلة من الرخاء و الترف قبل الثورة و لم يكن ينغص عليها سوى مناكشات الزوجة الثانية لكل من الزوجة الاولى و والدتهما حتى تم الحجز على الاراضى الزراعية لكبار اعيانها من أجل توزيعها على الفلاحين فما كان من والدهما إلا أن قام بتقسيم ثروته بين ابناءه العشرة خوفا من الحجز عليها و لكن تنكر اولاده الثمانية له بمعاونة والدتهم و استيلائهم على ثروته قضى على صحته حتى توفى و هى مازالت ابنة العشر سنوات و اخيها ابن الخامسة عشر سنة. مرت سنوات الدراسة على الاخوين سريعا ॥ تفوقا دراسيا و لم يعانيا سوى الجفاف العاطفى الذى لحقهما من جراء نفور اخوانهم و تنكرهم لهما على الرغم من محاولات والدتهما المستمرة كى تبقى العلاقة بين الاشقاء العشرة جيده و لكنها فشلت فلم يكن ذلك الامر يلقى أى قبول من الزوجة الثانية التى ظلت تعتقد أن والدتهما لا تسعى إلا لثروة زوجها التى وزعها على اولادها। لذا سرعان ما انقطعت العلاقة بينهم و انغمست كل من الزوجتين فى رعاية ابناءها.

.~.~.~.

سمع الاخوين صوت جرس باب الشقة فى تلك اللحظة فترك شامل مكانه و هو يشير لاخته بمراقبة سهير و حين فتح الباب وجد السائق يضع حقيبتين كبيرتين أمامه و هو يقول بنفاد صبر: _ ها هى حقائبها. و التفت ليغادر المكان دون أن ينتظر أى رد، فحمل شامل الحقائب و هو ذاهلا من سلوك السائق و ادخلها حتى غرفة النوم حيث كانت سهير ما تزال فاقدة للوعى. وضع الحقائب فى أحد الاركان و غادر الشقة دون أي تعليق و عاد و هو يحمل حقنة فى يده حقن بها سهير ثم جلس على طرف السرير و هو يعطيها جنبه و قد بدا عليه التفكير العميق. كان منغمسا فى تفسير الحالة الواقع تحت تأثيرها .. و كان أكثر شئ يشغله هو كيف تؤثر فيه امرأة فاقدة للوعى و تجعله منجذبا إليها بتلك الصورة المفزعة، و أخذ تعجبه يتزايد من حالته النفسية و العقلية فى ذلك الوقت، فليس من طبعه الانجذاب إلى المرأة و هي تشع حيوية فكيف و هى نائمة ؟! و لما هى ؟! لما لم تؤثر فيه واحدة من تلك الفتيات اللاتى كان يصادفهن اثناء دراسته أو تأديته عمله و يسعين إليه و قد كانوا كثيرات. . و أقل خطورة منها عليه. نعم .. هكذا كان يراها فى تلك اللحظة .. أمرأة خطرة يمكن أن تحطمه كليتا دون أن يكون بينمها أى حوار. و حاول أن يبرر انجذابه لها بفتنتها الشديدة لكنه ألقى نظرة عليها خاطفة فلم يتبين أى ملامح من الفتنة على وجهها حتى يمكنها أن تغرى بها أى انسان كى تسيطر عليه بتلك الصورة التى يشعر بها .. صحيح أن فى وجهها شئ يجذبه إليها لكنها لم تكن الفتنة أبدا، فتعجب من نفسه التى ما أرادت امرأة قط .. لكنها الان و فى تلك اللحظة تعلن صراحة له انها لا تريد سوى تلك المرأة التى أمامه .. هل تريدها زوجه. هل تريدها عشيقة أم تريدها امرأة فقط أم انسانة أم خيال أم أمل ؟ لا يعرف .. فقط اخذت جملة اريد تلك المرأة تتردد فى عقله كصدى صوت منطلقا من شخص أخر غيره. لكنه لم يستطع أن يحدد كنهة أو نوع تلك الارادة. ألقى أخري نظرة سريعة عليها ثم عاد إلى تأملاته لكنه ايقن من تلك النظرة السريعة أنه انزلق إلى هوة سحيقة من العذاب. فهى زوجة .. زوجة جاره الذى يكن له ابلغ التقدير و الاحترام. هنا وضع كفيه على عينيه كأنه يخفى بهما أثار جريمته. كان الحزن يعتصره و هو يتذكر كيف عاش عمره دون أن تستطع أى امرأة مهما كانت فتنتها أو نفوذها أو سطوتها أن تسلبه عقله حتى أتت تلك المرأة الفاقدة للوعى مزقت كل شيء داخله بهدوء دون أن يكون بينهما أى حوار او حتى تنظر له نظرة واحدة. عاد يتذكر أن تلك المرأة الراقدة أمامه تحمل بداخلها ابن جاره المهندس ماجد و أنها منذ دقائق معدودة كانت مجرد زوجة جاره التى كان يتردد اسمها أمامه دون أن يتأثر به، فتردد صوت فى أعماقه قائلا: _ عليها أن تظل كذلك بالنسبة لك و إلا هلكت. و أحس لأول بمرة بالخيانة كطوفان يعتصره حتى يأتى على اخر قطرة من اعصابه المنهاره أمام ذلك الاحساس الجديد .. ذلك الاحساس الذى بات كالزائر غير المرغوب فيه و رغم ذلك لم يستطع أو يجروأ على طرده. كل تلك الاحاسيس ظلت تطارده و هو يفكر فى حالتها الصحية، فبدا وجهه كزهرة عباد شمس فى ليلة شتوية شديدة البرود وعادت المخاوف عليه تجتاح عقل و قلب قمر أخته، فأخذت تلح عليه فى السؤال عن سبب شحوبه، فاستطاع بعد جهد أن يسترد رباطة جأشة ثم قال ليهدأ من روعها: _ إنها حامل و أشك أن يتحمل حملها كل ذلك المجهود البدنى. و الواقع أن ذلك السبب لم يكن الشئ الوحيد الذى يقلقه بل السبب الحقيقى هو حزنة الذى كان يتزايد مع كل لحظة تمر عليه و هو جالس معها فى ذلك المنزل. ((_ لابد أنك مرهق بشدة)). هكذا حدثته نفسه، لكن رغبته الشديدة فى النظر إليها و أحتواءها بين ذراعيه جعلته يمسك رأسه بين يديه و يصرخ فى أعماقة: ((_ توقف عن الجنون।))