।~.~.~.
فتح السائق الباب الخلفى للسيارة و هو يسب و يلعن نفسه على اليوم الذى وافق فيه على أن يقلها و حملها خارج السيارة و هو يطلب من الفتاة التى كانت ما تزال واقفه فى النافذة تتطلع منها على الزائرة الجديدة أن تفتح له الباب بسرعة و ما هى إلا لحظات قليلة حتى دخل بها الشقة متوجها إلى غرفة النوم حيث قادته الفتاة.
أرقدها السائق بعناية فى الوقت الذى طلبت منه الفتاة أن يتوجه إلى الطبيب و يأتى به بأقصى سرعة، فتركها و انطلق فى طريقه بينما وقفت الفتاة أمام الوافدة الجديدة حائرة لا تعرف ماذا تفعل ؟ فكان الشئ الوحيد الذى جال بخاطرها أن تغير لها ثيابها لكنها ما أن ألقت عليها نظرة واحدة حتى غيرت رأيها، فقد ظنت أن الغضب على وجه تلك الفاقدة للوعى تبعث برسالة تحذير لها بعدم الاقتراب منها فانتفضت لمجرد تخيلها ذلك الامر و تراجعت لتجلس على مقعد مواجه للسرير و هى تتطلع فى الفراغ و تدعوا ألا يتأخر الطبيب.
مر الوقت ثقيلا حتى سمعت صوت السيارة يقترب، فأتجهت إلى باب الشقة مباشرة و فتحته قبل أن يصعد أحد و ما هى إلا لحظات حتى عبر الباب شاب هادئ الملامح لم يكن سوى الطبيب الذى قال:
_ ماذا حدث؟
ردت الفتاة و هو يتبعها إلى غرفة النوم:
_ لقد فقدت وعيها لكني أسمع صوت أنفاسها متسارعة.
_ هل فعلتي لها شيء؟
_لا.
و ما أن خطى خطوته الاولى عند مدخل الغرفة حتى تسمر فى مكانه . و قد شحب وجهه بشدة. ظل الطبيب ينتفض.. برد جسده و ارتفعت حرارته فى آن واحد و بدا مدفونا وسط انفعالته. و لم ينتزعه من تلك المشاعر الغريبة التى عصفت بنفسه حين تطلع إلى وجه الراقدة على السرير فاقدة للوعى سوى يد الفتاة التى ظلت تهزه برفق، و هى تقول بجزع من التعابير التى احتلت وجهه:
_ هل أنت بخير؟
ألتفت الطبيب لها بحركة آليه و ربت على رأسها بحنان قائلا:
_ نعم. بخير.
و بدأ يخطو داخل الغرفة و هو يحاول أن يبدو متماسكا. جلس على طرف السرير بجانبها و ظل صامتا و هو يشعربرهبة المقدم على الصلاة لأول مرة.
تحركت شفتيه أخيرا بتمتمات غير مسموعة و أحس بنفسه كمتصوف داخل دار العبادة يتلو صلاته فى إجلال و هو يناجى ربه أن ينجيه من تلك الحياة البائسة التى يعيشها.. لكنه انتبه فجأة إلى أنه ليس فى دور العبادة بل فى غرفة نوم ترقد بها أمرأة فاقدة للوعى و أنه لا يصلى بل أمامه مريضة يجب معالجتها و تنبه أخيرا أنه ليس أمام ربه حتى يناجيه أن يرحمه بل هو أمام امرأة في غيبوبة أضعف من أن تصلح له حياته الهادئة التى هى شبه خالية من المشاكل و تعجب من حالته أشد العجب، و حاول أن يخرج من سطوة ذلك التأثير الذى باغته كصفعة قوية على وجهه وجهتها له الحياة حتى ينتبه إليها.. تلك الحياة التى كان يعيشها فقط من أجل إراحة كل مريض و إغاثة كل محتاج.
كان مذهولا من نفسه و مذهولا من كل شئ. التقط انافسه اللاهثة كأنه قد نجى لتوه من الغرق و أخذ يردد على نفسه نفس الاسئلة التى سألها للفتاة و هو يدخل من باب الشقة، فقد محت رؤيته لتلك المخلوقة الفاقدة للوعى ذاكرته، فحاول أن يستعيد كل شئ دون جدوى، بل لم يعد يعى أى شئ مما يحيط به. نسى تلك الفتاة التى تقف بالقرب منه و نسى السائق الذى اتى به الى هنا. نسى عيادته التى بذل فيها سنوات عمره حتى يطورها و يدفع سكان تلك القرية المتطرفة إلى الاقتناع به كطبيب.. حتى المعلومات الطبية كان يحاول استرجاعها بصعوبة.. فقط ظل لدقائق ينظر للمريضة و هو يحاول أن يتذكر ما تعلمه فى كلية الطب لسنوات و ما اكتسبه من خبره في عمله لكنه كان تحت تأثير حالة نفسية لم يعرف كنهها منذ أن وقع نظره عليها.
يتبع
.~.~.~.