إيمان عزمي
تعـودت
**********
تعودت منذ أن بدأت عملي .. أن أرى بائعة الجرجير تأتى في نفس موعد وصولي عند مدخل الشارع المطل على الميدان كل يوم .. ذلك الموعد الذي نادرا ما أتأخر عنه ، و قد أثارت دهشتي انضباطها الشديد في موعد مرورها .. على الرغم من مظهرها الذي لا يمت للمدنية بأي صلة ، حتى أنى قد تعودت أن اضبط ساعة يدي على موعدها و هي تدخل الشارع و تحمل فوق رأسها سبت الجرجير و تنادى عليه بصوت واهن أقرب إلى صوت الموت منه إلى المناداة ..
ظل مرورها هكذا منضبطا قرابة الإحدى عشر شهرا .. و على الرغم من شفقى على حالها .. لم أحاول يوما سؤالها عن أحوالها أو مساعدتها بشراء الجرجير منها . و مع بداية اليوم الأول للشهر الثاني عشر قررت أن أتحدث إليها ، فخرجت من منزلي مبكرا_ و أنا مصممة على انتظارها كي أكلمها _ على الرغم من تأكدي من حضورها في نفس موعدها .
مر الوقت متثاقلا و أنا منتظرة .. انظر تارة إلى ساعتي .. ثم أعاود النظر إلى ساعة الميدان .. حتى دقت ساعة الميدان معلنة تمام الثامنة .. فطرق القلق بمطرقة حديدية على أعماق قلبي .. كيف تتأخر تلك البائعة المنضبطة ؟! و بعد أن كنت اجلس في سيارتي منتظرة حضورها .. إذا بي أغادرها في قلق جم و أتلفت باحثة عنها يمينا و يسارا .. كأني ابحث عن ابنتي التائهة .. فلفت انزعاجي المارة الذين التفوا حولي عارضين المساعدة على، فشكرتهم بهدوء و رحلوا سريعا كل ٍ إلى عمله .
ظللت اليوم كله منتظرة حضورها في أي لحظة .. حتى مر بي عدد كبير من زملائي في حضورهم و في مغادرتهم للشركة و هم يتساءلون عن سر وقوفي في ذلك المكان و التلفت حولي كمن يبحث عن شئ هام فقده . . دون أن استطيع أجابتهم .
عدت إلى منزلى في وقت متأخر في محاولة فاشلة لرؤيتها .. و قررت أن ابحث عنها بصورة أكثر فاعلية في اليوم التالي ، فكان أول ما فعلته في الصباح أن ذهبت إلى شرطي المرور المسئول عن الميدان و سألته إن كان يعلم شئ عنها ، فلم يروى عطشى الشديد ، فظللت طوال الأسبوع لا افعل شئ سوى البحث عنها حتى مرت بائعة جديدة للجرجير في الشارع ، و هي فتاة صغيرة تنادى بصوت رفيع عليه ، فسألتها في يأس إن كانت تعرفها ، فردت الفتاة _ وهى تقرب منى سبت الجرجير لعلى اطلع عليه فاشترى منها _ بأن البائعة قد رحلت كما سنرحل جميعا .هنا فقط شعرت بتغير كل شئ داخلي ، كأن أعضائي غيرت أماكنها دون أن آذن لها ..
هنا فقط تبينت أنني كنت واهمة حين اعتقدت أن حياتي استقرت في تلك الوظيفة .. في ذلك الشارع .. في تلك الحياة، فكان لابد من ترك تلك الوظيفة التي جعلتني تعودت .
التسميات: edit post
4 تعليقات
  1. حبارير Says:

    الرسالة الأكثر تأثيرا لي هنا هي المسارعة إلى أمر الخير

    لأن الفرصة قد لا تتكرر

    قصة جميلة شدتني لآخر حرف


  2. شكرا حبارير و كما يقال النص يحتمل أكثر من رؤية المهم انه راق لك


  3. الرحيل شيء لابد منه .. ولكن يبقى ماذا سنأخذ معنا!!


  4. مرحبا بك ِ سلطانة فى المدونة

    فعلا محدش بياخد حاجة معاه عند الرحيل

    دمتي بود