لم تشعر في جلستها تلك أنها تستطيع التوصل لقرار، فكلماته الصادمة لها مازالت تلقى في وجهها كأنه لم يمر عليها ثلاث ليالي. بدت كمن يفكر في قرار مصيري لكنها رغم ذلك ابتسمت بمجرد أن سمعت صوت المفتاح يدار في الباب. انتظرت أن تراه يدخل عليها بوجهه الخجول ليعتذر لها عن نوبة غضبه كما يفعل دائما لكن الدقائق مرت دون أن تسمع خطواته تقترب من باب الغرفة. ودت لو أتى إليها بعد سفره المفاجئ فاتحا ذراعيه هامسا باسمها.. فقط أسمها هو كل ما تتمنى أن تسمعه لتنسى كل شيء. لكن الصمت هو كل ما سمعته. مرت الدقائق ببطء ليعلن عقرب الساعة مرور ساعة على ذلك الصمت. فتسللت خارج الغرفة. بحثت عنه في الغرفة المجاورة لكنها لم تجده ثم خرجت للصالة تتجول بعينيها في كل ركن فيها لكنها لم تلمح حتى ظله. عادت إلي غرفتها لكنها تسمرت عند عتبة بابها قبل أن تدخلها على أطراف أصابعها. كان متكورا في حضن السرير كجنين في رحم أمه. كم تشتاق لبكائه في حضنها كلما ضاقت عليه الدنيا. مازالت تسمع جملته في أذنيها: _ إنه المكان الوحيد الذي أستطيع البكاء فيه بحرية. اقتربت منه. كانت خصلات شعره تخبئ جبينه العريض. أرادت أن تمد يدها لتزيحها و تمسح بكفها عليه كما تفعل كلما رأت الإرهاق باديا على وجهه لكنها وقفت تتأمله. أطلقت زفرة حارة و هي تنظر لإطراف أصابعها في خجل فلطالما داعبت بها تلك الشعيرات النابتة في ذقنه و هو نائما لتوقظه لكنها الآن لا تستطيع إيقاظه. لاحظت العرق المتسلل إلى جبينه. كان نائما بملابسه فتعجبت! هو يكره النوم بملابس الخروج. مطت شفتيها و هي ترى خصلات شعره الغارقة في عرقه. بدا أكثر أغراء في نومته الحزينة تلك، كادت تصرخ فيه مصرحة بالأمر، لكن كبرياءها قفز أمام عينيها مذكرا إياها بما فعله. تحرك في السرير فانتفضت متراجعة للخلف مخافة أن يراها واقفة تتأمله لكنه لم يفتح عينيه قط بل عاد لتكوره و لكن في الجهة المقابلة لتختفي ملامح وجهه كليتا عنها. لمحات من شجارهما الأخير بدأت في القفز أمام عينيها. لكنها طردتها سريعا و توجهت للجهة الأخرى من السرير لتتمكن من رؤيته. _مجنونة. خرجت الجملة من فمها دون إرادتها فهكذا رأت نفسها في تلك اللحظة. لم تستطع أن تتمسك بغضبها منه. فقط أرادت أن تتأكد إن كان يحبها كما تشعر أم أن الأخرى غلبتها؟ جلست على مقعد مواجه له. كانت ملامحه تنطق بالندم، السواد الذي أسفل عينيه يقسم أنه لم ينم الأيام الماضية. و الشفتين الباهتتين يعلنان أنهما في حاجه لمن يحيهما. و الوجه الشاحب يصرخ بعذاب صاحبه. لم تستطع أن تحتمل أكثر من ذلك. فانسابت دموعها رغما عنها. غادرت المقعد مسرعة راجيةً في الهروب خارج الغرفة قبل أن يرتفع صوت بكائها لكنها بمجرد أن وقفت إذا بيده تمتد تخطفها من مكانها لتكورها في ثانية في حضنه على السرير। ألتفتت له و شحنات الغضب تتطاير من ملامحها لتصرفه لكن ما أن التقت عينيها بعينيه حتى ذاب كل شيء. كان عليها أن تقاومه و لو لثانية و هو يمد كفه ليداعب وجهها انتصارا لكبريائها المجروح لكنها بدلا من ذلك دفنت وجهها في كفه فضمها إليه أكثر.
.~.~.~.
فتحت عينيها. كان يغط في نوم عميق و قد دفن رأسه في حضنها. ظلت صامته في جلستها تلك فترة ثم حاولت أن تغادره لتعيد ترتيب أعصابها التي تلاعب بها بين يديه منذ قليل لكن يده التي أعادتها إلي مكانها أفزعتها فقالت بعد أن هدأت: _ متي يحين لنا الكلام؟ أحتاج للكلام. تحرك في السرير و قال و هو يرفعها معه ليستندا إلى ظهر السرير: _ فلننسى ما حدث فلنجعله ماضي. لن يفيد الكلام الآن. عضت على شفتيها قائلة: _ لماذا كلما حدث حوار بيننا في غير الحب توأده؟! لماذا لا يمكننا الحديث في مشاكلنا؟! تطلع إليها. كانت عينيها ممتلئة بالدموع فمسحها بكفه ثم قال: _ تعلمين أننا كلما تحدثنا عن مشاكلنا تفاقمت أكثر. فلنتركها. مسحت بكفها على خده قائلة: _ لكننا نتركها دائما. _ و لماذا نهتم بها ما دامت تضايقنا؟! وغادر السرير في طريقه إلى الحمام. فقالت بغيظ: _ فلتهرب من حديثنا كما تهرب دائما؟ ألتفت لها. كان وقع الكلمة في نفسه قويا فقال و هو يجز على أسنانه: _ لست خائفا لأهرب، فكل ما أبغي هو تجنب المشاكل. _ لكن هروبك لا يحلها و لكن يؤجلها. أمسكها من معصمها و صرخ فيها قائلا: _ قلت لست بجبان لأهرب. حاولي أن تستوعبي ما أفعله. أنني أتجنب الصدام معك ِ للحفاظ على هذا البيت. أغمضت عينيها و تفجرت الدموع منهما كالشلال، فجذبها إليه و ضمها إلي صدره و هي تقول: _ إنني متعبه. أحتاج لحل كل تلك المشاكل المؤجلة و ليس تجاهلها و تجنبها كما نفعل. ربت على رأسها و أخرج زفرة حارة و قال بصوت بدا قادما من أعماقه: _ صدقيني، لو كان بيدي الحل لحللتها. ثم رفع رأسها لأعلى لتواجه عينيه عينيها قائلا: _ لو كان بيدي شيء ما ترددت لمناقشة و حل كل مشاكلنا. أطلقت زفرة حارة ثم قالت بيأس و هي تبتعد: _ إذا لا حل. لكنه جذبها إليها قائلا: _ الصبر. فقط الصبر. _ و الأخرى؟ تراجع مبتعدا عنها و جلس على اقرب مقعد و هو يقول: _ لا أحد يأخذ كل شيء. و أنا قد اخترتك. _ لكنك تحبها. أغمض عينيه كأنه يستمد منهما القوة و قال و قد فتحهما سريعا: _ بل أحبك. و كفى حديثا عنها. _ لا، تحبها. ألا ترى وجهك كلما تحدثت عنها؟! أقترب منها و قال بصوت هادئ و هو يطوق خصرها بيديه: _ نسمه. كفى حديثا عنها. _ بل يجب أن تعترف أنك تحبها. هي حبك الأول و الأخير و ستأتي لك بالطفل الذي تبغيه. نظر لها متأملا وجهها. بدت عينيها كقطعتين من الياقوت اللامع فقال باسما: _ إنك لست نسمه بل إعصار نكد. و أخذ يقهقه عله يخرجها من حالتها تلك لكنها قالت و هي تجلس على طرف السرير: _ الوقت لا يصلح للمزاح. و نظرت له نظرة أخرسته، ثم قالت بعد أن هدأت: _ تلك هي النهاية. فلدينا من المشاكل ما يحتاج إلى قرارات جمهورية لحلها أولها الأخرى. جلس على ركبتيه أمامها قائلا و هو ممسكا بيديها يقبلها: _ و لكنى أحبك. حاولت أن تتماسك حتى لا تسقط مزيدا من الدموع و هي تقول: _ بل تحب زوجتك و لطالما ظللت زوجتك ستحبني، أما هي فهي حبك في القرب و البعد و احتياجك في كل وقت و سعادتك منذ سنوات. _ نسمه. بدا صوته أقرب إلى الاعتذار و طلب الغفران منه إلي الرغبة في الاستمرار ، فانتفضت و قد أحست بالضعف ينخر في أعصابها لكنها رغم ذلك أعطته ظهرها و خرجت من الغرفة مسرعة. توقعت أن يلحق بها فالتفتت لتجد الخواء رفيقها.